0

فرحان العطار


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ


في حديثه عن القائد عبدالقادر الصالح – تقبله الله في الشهداء- قال هادي العبدالله : بأنه كان يرفض التقاط أي صورة أو فيديو له و يقول :

الكاميرات تقتل إخلاصنا ... دعوا أعمالنا خالصة لله.

لقد اختزلت هذه الكلمة توصيف الداء و الدواء ، فأعمالنا و جهادنا و عباداتنا لا تكاد تصمد تجاه هذا الحصد الذي لايبقي و لا يذر ! فمن يستطيع اليوم لجم النفوس و كبح جماحها و هي التي تحب المحمدة و الثناء ، و تستطيل لتتلذذ بسماع عبارات المدح و الإطراء ، و تركن له و تستكين ، على كونه يعتبر من جملة المحبطات و الآفات للأعمال ، قال ابن القيم رحمه الله : لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار" ا.هـ فهل نعي هذا و ننتبه له !

فالنية تحتاج إلى جهاد و معالجة و يقظة و تصحيح كما قال الثوري رحمه الله : ما عالجت شيئا أشد علي من نيتي لأنها تتقلب عليّ ا.هـ فكيف تُعالج اليوم تحت هذا الضغط الهائل ، من وسائل الإعلام و التواصل التي تعتبر من أكبر ما يعصف بالخبايا و النيات ، مما قد يحرم المرء بركة العمل و ثمرته و عاقبته ، و يؤدي إلى تشوش المنهج لدى شريحة عريضة من مجتمعاتنا أهمها الشباب ، و تتصدر المعارك الجانبية المشهد بسبب انشغالنا بالانتصار للنفوس و الأشخاص، على حساب المبادئ و الثوابت التي تشترط الانتصار على النفوس و التضحية بها أولاً لتنتصر هي و تكون ظاهرة ( إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم )

فعن بريدة بن الحصيب – رضي الله عنه - قال : شهدت خيبر ، وكنت فيمن صعد الثلمة ، فقاتلت حتى رئي مكاني ، وعلي ثوب أحمر ، فما أعلم أني ركبت في الإسلام ذنبا أعظم علي منه !.

فاعتبر هذا الصحابي المبارك هذا التصرف منه ذنباً عظيما يخشى بأن يذهب بأجره كله ، و بعضنا يحرص اليوم على توثيق مثل هذه المواقف بالصوت و الصورة فكم بيننا و بينهم !

قال ابن مهدي : كنت اجلس يوم الجمعة فإذا كثر الناس فرحت ، و إذا قلوا حزنت ! فسألت بشر بن منصور فقال : هذا مجلس سوء فلا تعد إليه ، فما عدت إليه.

و قال محمد بن يوسف الأصفهاني لابن مهدي : حدث الناس و علمهم ، و لكن انظر إذا اجتمع الناس حولك ،كيف يكون قلبك !

و نظر رجاء بن حيوة إلى رجل ينعس بعد الصبح فقال : انتبه لا يظنون ذا عن سهر !!

هكذا كانوا يربون طلابهم و تلاميذهم و مجتمعاتهم على العبودية لله و التجرد له فأخرجوا لنا العلماء الكبار الصادقين المخلصين فهذا الإمام الكبير سفيان الثوري يقول : مازلت أرائي و أنا لم أشعر إلى أن جالست أبا هاشم – فديم- فأخذت منه ترك الرياء !

فمن يا تُرى يُنبه كبارنا و صغارنا اليوم على مثل هذا !

و كان الإمام احمد إذا سُئل عن الورع اغتم و قال: أسأل الله أن لا يمقتنا ، أين نحن من هؤلاء !؟

وهذا محمد بن يوسف الأصبهاني علم الزهاد لا يشتري زاده من خباز واحد و يقول : لعلهم يعرفوني فيحابوني فأكون ممن أعيش بدينه !!

إنها نماذج حية تراها الجماهير فتتعلم الإخلاص و التجرد لله من كبار علماء الأمة و صفوتها .

ثم قارنوا بين حرصهم على إخفاء العمل ، و المحافظة عليها بعيداً عن دائرة الشهرة و الأضواء ، و بين حرصنا على التوسع في تصوير الأعمال و توثيقها و نشرها.

قال الثوري : كل شيء أظهرته من عملي فلا أعده شيئا، لعجز أمثالنا عن الإخلاص إذا رآه الناس !

و هذا بشر بن الحارث رحمه الله يقول : لا ينبغي لأمثالنا أن يظهر من أعماله الصالحة ذرة فكيف بأعماله التي دخلها الرياء ، فالأولى بأمثالنا الكتمان !

فماذا سيقولون لو شاهدوا بلية الإعلام في زماننا ، و التي تجعلنا أمام الشهرة و الرياء وجهاً لوجه ، و هم يعلمون بأن أقرب الناس للرياء أقربهم له ، كما قاله التابعي الجليل عبدة ، فحب الشهرة و الظهور و المحمدة و حب الثناء و تصدر الشاشات و القنوات ، قاصم للظهور ، محبط للأعمال ، إن لم يكن القائم عليها بصيراً بدينه ، مراقباً لنفسه و محاسباً لها ، مؤثراً للآخرة معرضاً عن الدنيا ، وإلا فسيذهب بالمرء بعيداً عن ربه و هو يحسب بأنه من الذين يحسنون صنعا ، و ربما يدفع المال و الجاه للظهور فقط على تلك القناة أو غيرها ، إذ تعودت نفسه على الوهج و الإضاءة فلا تطيق الهدوء و السكينة و الخلوة و الطمأنينة !

أيها الفضلاء :

كم أفسدنا من ناشئ في رياض العلم و حلقات الذكر بسبب ما نكيل من المدح و الإطراء لهذا الغر حتى نفسد عليه دينه و دنياه !

و كم أفسدنا على قارئ للقرآن عذب الصوت ، أو هو أفسد على نفسه ، إذ جعل نعمة الله وبالاً عليه ، حين يتم نقل صلاته و بكائه و خشوعه بالصوت و الصورة مباشرة عبر الفضاء ! فأي قلب يقاوم هذا الطوفان الذي لا طاقة للقلوب به !

و كم أفسد هذا الإعلام على مجاهد جهاده و بلاؤه ، حين يحرص على الظهور أمام عدساتها و آلاتها ، و لو كان هذا الظهور هامشيا من بعيد ، فحين يحمى وطيس المعارك و تلتهب ميادينها ، و العبد الضعيف بين فكيها ينظر للآخرة أمامه و الدنيا من خلفه ، و يظن بأن هذه الآلة ستحفظ له الشرف و الذكر في الدنيا ! فأي قلب يتحمل هذا العبء الذي يحرث في مكامن شهوات النفس و يستثير غرائزها حتى بعد الموت ! حين يعتقد بأن الملايين سيرون قصة جهاده و استشهاده ، و ستنتشر في أصقاع الأرض ، و سيروونها للأجيال من بعده ، فقولوا بربكم من يطيق مثل هذا ! كما عبر عنه القائد عبدالقادر رحمه الله ، و أين نحن من تحذير العالم العابد العاقل بشر بن الحارث حين قرر بأن الرجل قد يكون مرائيا بعد موته ! قيل له كيف ذلك ؟ قال : يحب أن يكثر الخلق في جنازته ! و أين حب هذه الكثرة من كثرة الإعلام و المشاهدين في عصرنا !

إن هذا التوسع في تصوير صلاتنا و جهادنا و مناشطنا لهو توسع مذموم ، و هذا التساهل في عباداتنا لهو أقرب طريق لفسادها و ردها ( لن ينال الله لحومها و لا دماؤها و لكن يناله التقوى منكم ) و جميعنا يعلم بأن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة هم المجاهد و العالم و من آتاه الله المال ، و الجامع بينهم هو فساد أعمالهم بالرياء و العمل لأجل الناس لا لله ، و إنما ليقال عالم و ليقال قارئ و ليقال كريم و ليقال جرئ و شجاع و قد قيل .

لقد اختلطت الموازين اليوم حتى ظن شبابنا بأن الأفضل هم الأشهر ، و هذا نذير شؤم حين تكون الشهرة هي الهدف الأسمى الذي ينشده شبابنا ، بينما تربية القرآن و السنة على خلاف هذا تماماً ، فموسى عليه السلام سئل : من أعلم أهل الأرض ؟ فأجاب : أنا ، فعوتب إذ لم يرد العلم لله و دُل على الخضر ، كما كانت فترة التابعين غنية بالعلماء الذين نقلوا العلم و الدين من الصحابة إلى من بعدهم ثم يقول نبينا عليه الصلاة و السلام " أفضل التابعين أويس " و هو ليس من رواة الحديث و لا من القراء المشهورين ، مما يعني بأن هناك معايير ربانية هي التي تحدد الصالحين و المؤثرين في أحوال الأمة.

قال إبن شوذب : لم يكن لمحمد بن واسع عبادة ظاهرة ، و كانت الفتيا الى غيره ، و إذا قيل من أفضل أهل البصرة ؟ قيل محمد بن واسع !

كما أن في زماننا اليوم من لا يوجد له أي مقطع مرئي أو صورة و مع هذا تجد له من القبول و البركة و الأثر و الأتباع ما لا يقارن بغيره أبدا .

لذا فكان لزاماً على العلماء و الدعاة و المربين و المؤثرين الانتباه و المراجعة لهذا الباب الذي هو عنوان الرد و القبول ، و النصر و الهزيمة ، و لن تنتصر امتنا الا حين نخرج انفسنا من المعادلة ثم نتجرد لله وحده كما قال سيد قطب رحمه الله " فما يتحقق النصر في عالم الواقع إلا بعد تمامه في عالم الضمير؛ وما يستعلي أصحاب الحق في الظاهر إلا بعد أن يستعلوا بالحق في الباطن أما الذين يرفعون راية العقيدة و لا يخلصون لها إخلاص التجرد فلا يمنحهم الله النصر أبدا ، حتى يبتليهم و يتمحصوا هذا ما يريد القرآن أن يجلوه "

فمن أراد الخير لأمته فليحسن لنفسه أولاً ، و ليترق في درجات العبودية الصادقة لله ، فإنك لن تخدم أمتك بمثل صدقك مع الله، فكثرة الصادقين و المخلصين و المتجردين هي العلامة الفارقة لانتصار الأمة و ظهورها.

فمن ثمرات الصدق و العبودية لله ما ذكره إبن وهب حين قال : ما رأيت أحدا أشد استخفاء بعمله من حيوة بن شريح ، و كان يعرف بإجابة الدعاء !

و هذا القائد قتيبة بن مسلم لما صاف العدو سأل عن محمد بن واسع ؟! فقيل له : هو في طرف العسكر رافعاً لأصبعه و يدعوا ، ففرح قتيبة و قال : هذه الأصبع أحب إلي من الف شاب طرير و سيف شهير !

" فالأعمال الصالحة و الأدعية الصادقة هي الجند الذي لا يُغلب" كما قاله شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله

اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشيداً يُعز فيه أهل طاعتك ، و يُعافى فيه أهل معصيتك ، و يؤمر فيه بالمعروف ، و يُنهى فيه عن المنكر ، و صلى الله على نبينا محمد.

إرسال تعليق

 
Top