لقد اختزلت هذه الكلمة توصيف الداء و الدواء ، فأعمالنا و
جهادنا و عباداتنا لا تكاد تصمد تجاه هذا الحصد الذي لايبقي و لا يذر ! فمن
يستطيع اليوم لجم النفوس و كبح جماحها و هي التي تحب المحمدة و الثناء ، و
تستطيل لتتلذذ بسماع عبارات المدح و الإطراء ، و تركن له و تستكين ، على
كونه يعتبر من جملة المحبطات و الآفات للأعمال ، قال ابن القيم رحمه الله :
لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا
كما يجتمع الماء والنار" ا.هـ فهل نعي هذا و ننتبه له !
فالنية تحتاج إلى جهاد و معالجة و يقظة و تصحيح كما قال الثوري رحمه الله :
ما عالجت شيئا أشد علي من نيتي لأنها تتقلب عليّ ا.هـ فكيف تُعالج اليوم
تحت هذا الضغط الهائل ، من وسائل الإعلام و التواصل التي تعتبر من أكبر ما
يعصف بالخبايا و النيات ، مما قد يحرم المرء بركة العمل و ثمرته و عاقبته ،
و يؤدي إلى تشوش المنهج لدى شريحة عريضة من مجتمعاتنا أهمها الشباب ، و
تتصدر المعارك الجانبية المشهد بسبب انشغالنا بالانتصار للنفوس و الأشخاص،
على حساب المبادئ و الثوابت التي تشترط الانتصار على النفوس و التضحية بها
أولاً لتنتصر هي و تكون ظاهرة ( إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم )
فعن بريدة بن الحصيب – رضي الله عنه - قال : شهدت خيبر ، وكنت فيمن صعد
الثلمة ، فقاتلت حتى رئي مكاني ، وعلي ثوب أحمر ، فما أعلم أني ركبت في
الإسلام ذنبا أعظم علي منه !.
فاعتبر هذا الصحابي المبارك هذا التصرف منه ذنباً عظيما يخشى بأن يذهب
بأجره كله ، و بعضنا يحرص اليوم على توثيق مثل هذه المواقف بالصوت و الصورة
فكم بيننا و بينهم !
قال ابن مهدي : كنت اجلس يوم الجمعة فإذا كثر الناس فرحت ، و إذا قلوا حزنت
! فسألت بشر بن منصور فقال : هذا مجلس سوء فلا تعد إليه ، فما عدت إليه.
و قال محمد بن يوسف الأصفهاني لابن مهدي : حدث الناس و علمهم ، و لكن انظر
إذا اجتمع الناس حولك ،كيف يكون قلبك !
و نظر رجاء بن حيوة إلى رجل ينعس بعد الصبح فقال : انتبه لا يظنون ذا عن
سهر !!
هكذا كانوا يربون طلابهم و تلاميذهم و مجتمعاتهم على العبودية لله و التجرد
له فأخرجوا لنا العلماء الكبار الصادقين المخلصين فهذا الإمام الكبير سفيان
الثوري يقول : مازلت أرائي و أنا لم أشعر إلى أن جالست أبا هاشم – فديم-
فأخذت منه ترك الرياء !
فمن يا تُرى يُنبه كبارنا و صغارنا اليوم على مثل هذا !
و كان الإمام احمد إذا سُئل عن الورع اغتم و قال: أسأل الله أن لا يمقتنا ،
أين نحن من هؤلاء !؟
وهذا محمد بن يوسف الأصبهاني علم الزهاد لا يشتري زاده من خباز واحد و يقول
: لعلهم يعرفوني فيحابوني فأكون ممن أعيش بدينه !!
إنها نماذج حية تراها الجماهير فتتعلم الإخلاص و التجرد لله من كبار علماء
الأمة و صفوتها .
ثم قارنوا بين حرصهم على إخفاء العمل ، و المحافظة عليها بعيداً عن دائرة
الشهرة و الأضواء ، و بين حرصنا على التوسع في تصوير الأعمال و توثيقها و
نشرها.
قال الثوري : كل شيء أظهرته من عملي فلا أعده شيئا، لعجز أمثالنا عن
الإخلاص إذا رآه الناس !
و هذا بشر بن الحارث رحمه الله يقول : لا ينبغي لأمثالنا أن يظهر من أعماله
الصالحة ذرة فكيف بأعماله التي دخلها الرياء ، فالأولى بأمثالنا الكتمان !
فماذا سيقولون لو شاهدوا بلية الإعلام في زماننا ، و التي تجعلنا أمام
الشهرة و الرياء وجهاً لوجه ، و هم يعلمون بأن أقرب الناس للرياء أقربهم له
، كما قاله التابعي الجليل عبدة ، فحب الشهرة و الظهور و المحمدة و حب
الثناء و تصدر الشاشات و القنوات ، قاصم للظهور ، محبط للأعمال ، إن لم يكن
القائم عليها بصيراً بدينه ، مراقباً لنفسه و محاسباً لها ، مؤثراً للآخرة
معرضاً عن الدنيا ، وإلا فسيذهب بالمرء بعيداً عن ربه و هو يحسب بأنه من
الذين يحسنون صنعا ، و ربما يدفع المال و الجاه للظهور فقط على تلك القناة
أو غيرها ، إذ تعودت نفسه على الوهج و الإضاءة فلا تطيق الهدوء و السكينة و
الخلوة و الطمأنينة !
أيها الفضلاء :
كم أفسدنا من ناشئ في رياض العلم و حلقات الذكر بسبب ما نكيل من المدح و
الإطراء لهذا الغر حتى نفسد عليه دينه و دنياه !
و كم أفسدنا على قارئ للقرآن عذب الصوت ، أو هو أفسد على نفسه ، إذ جعل
نعمة الله وبالاً عليه ، حين يتم نقل صلاته و بكائه و خشوعه بالصوت و
الصورة مباشرة عبر الفضاء ! فأي قلب يقاوم هذا الطوفان الذي لا طاقة للقلوب
به !
و كم أفسد هذا الإعلام على مجاهد جهاده و بلاؤه ، حين يحرص على الظهور أمام
عدساتها و آلاتها ، و لو كان هذا الظهور هامشيا من بعيد ، فحين يحمى وطيس
المعارك و تلتهب ميادينها ، و العبد الضعيف بين فكيها ينظر للآخرة أمامه و
الدنيا من خلفه ، و يظن بأن هذه الآلة ستحفظ له الشرف و الذكر في الدنيا !
فأي قلب يتحمل هذا العبء الذي يحرث في مكامن شهوات النفس و يستثير غرائزها
حتى بعد الموت ! حين يعتقد بأن الملايين سيرون قصة جهاده و استشهاده ، و
ستنتشر في أصقاع الأرض ، و سيروونها للأجيال من بعده ، فقولوا بربكم من
يطيق مثل هذا ! كما عبر عنه القائد عبدالقادر رحمه الله ، و أين نحن من
تحذير العالم العابد العاقل بشر بن الحارث حين قرر بأن الرجل قد يكون
مرائيا بعد موته ! قيل له كيف ذلك ؟ قال : يحب أن يكثر الخلق في جنازته ! و
أين حب هذه الكثرة من كثرة الإعلام و المشاهدين في عصرنا !
إن هذا التوسع في تصوير صلاتنا و جهادنا و مناشطنا لهو توسع مذموم ، و هذا
التساهل في عباداتنا لهو أقرب طريق لفسادها و ردها ( لن ينال الله لحومها و
لا دماؤها و لكن يناله التقوى منكم ) و جميعنا يعلم بأن أول من تسعر بهم
النار يوم القيامة هم المجاهد و العالم و من آتاه الله المال ، و الجامع
بينهم هو فساد أعمالهم بالرياء و العمل لأجل الناس لا لله ، و إنما ليقال
عالم و ليقال قارئ و ليقال كريم و ليقال جرئ و شجاع و قد قيل .
لقد اختلطت الموازين اليوم حتى ظن شبابنا بأن الأفضل هم الأشهر ، و هذا
نذير شؤم حين تكون الشهرة هي الهدف الأسمى الذي ينشده شبابنا ، بينما تربية
القرآن و السنة على خلاف هذا تماماً ، فموسى عليه السلام سئل : من أعلم أهل
الأرض ؟ فأجاب : أنا ، فعوتب إذ لم يرد العلم لله و دُل على الخضر ، كما
كانت فترة التابعين غنية بالعلماء الذين نقلوا العلم و الدين من الصحابة
إلى من بعدهم ثم يقول نبينا عليه الصلاة و السلام " أفضل التابعين أويس " و
هو ليس من رواة الحديث و لا من القراء المشهورين ، مما يعني بأن هناك
معايير ربانية هي التي تحدد الصالحين و المؤثرين في أحوال الأمة.
قال إبن شوذب : لم يكن لمحمد بن واسع عبادة ظاهرة ، و كانت الفتيا الى غيره
، و إذا قيل من أفضل أهل البصرة ؟ قيل محمد بن واسع !
كما أن في زماننا اليوم من لا يوجد له أي مقطع مرئي أو صورة و مع هذا تجد
له من القبول و البركة و الأثر و الأتباع ما لا يقارن بغيره أبدا .
لذا فكان لزاماً على العلماء و الدعاة و المربين و المؤثرين الانتباه و
المراجعة لهذا الباب الذي هو عنوان الرد و القبول ، و النصر و الهزيمة ، و
لن تنتصر امتنا الا حين نخرج انفسنا من المعادلة ثم نتجرد لله وحده كما قال
سيد قطب رحمه الله " فما يتحقق النصر في عالم الواقع إلا بعد تمامه في عالم
الضمير؛ وما يستعلي أصحاب الحق في الظاهر إلا بعد أن يستعلوا بالحق في
الباطن أما الذين يرفعون راية العقيدة و لا يخلصون لها إخلاص التجرد فلا
يمنحهم الله النصر أبدا ، حتى يبتليهم و يتمحصوا هذا ما يريد القرآن أن
يجلوه "
فمن أراد الخير لأمته فليحسن لنفسه أولاً ، و ليترق في درجات العبودية
الصادقة لله ، فإنك لن تخدم أمتك بمثل صدقك مع الله، فكثرة الصادقين و
المخلصين و المتجردين هي العلامة الفارقة لانتصار الأمة و ظهورها.
فمن ثمرات الصدق و العبودية لله ما ذكره إبن وهب حين قال : ما رأيت أحدا
أشد استخفاء بعمله من حيوة بن شريح ، و كان يعرف بإجابة الدعاء !
و هذا القائد قتيبة بن مسلم لما صاف العدو سأل عن محمد بن واسع ؟! فقيل له
: هو في طرف العسكر رافعاً لأصبعه و يدعوا ، ففرح قتيبة و قال : هذه الأصبع
أحب إلي من الف شاب طرير و سيف شهير !
" فالأعمال الصالحة و الأدعية الصادقة هي الجند الذي لا يُغلب" كما قاله
شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله
اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشيداً يُعز فيه أهل طاعتك ، و يُعافى فيه أهل
معصيتك ، و يؤمر فيه بالمعروف ، و يُنهى فيه عن المنكر ، و صلى الله على
نبينا محمد.
إرسال تعليق